فصل: تفسير الآية رقم (72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله‏}‏ أي‏:‏ إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب ‏{‏كمثل آدم‏}‏‏.‏ ثم فسر شأن آدم فقال‏:‏ ‏{‏خلقه من تراب‏}‏ أي‏:‏ خلق قالبه من تراب، ‏{‏ثم‏}‏ نفخ فيه الروح، و‏{‏قال له كن فيكون‏}‏ أي‏:‏ فكان، فشأنه أغرب من شأن عيسى، لأنه وجد من غير أب ولا أم، بخلاف عيسى عليه السلام، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع الله على قلبه، فاستعجز القدرة الإلهية، ‏{‏وكان الله على كل شيء مقتدراً‏}‏‏.‏ هذا هو ‏{‏الحق من ربك فلا تكن من الممترين‏}‏ أي‏:‏ الشاكين في مخلوقيته، وهذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، على طريق التهييج لغيره، أو لكل سامع‏.‏

وسبب نزول الآية‏:‏ أنَّ وفد نجران قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مالك تشتم صاحبنا، فتقول‏:‏ إنه عبد‏؟‏ قال‏:‏ أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول، فغضبوا، وقالوا‏:‏ هل رأيت إنساناً قط من غير أب‏؟‏ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏‏.‏ أي‏:‏ فهو أعجب من عيسى، لكونه بلا واسطة أصلاً‏.‏ رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشر سنة، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وليسلكن الروحاء حاجّاً أو معتمراً، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً، ويقاتل الناس على الإسلام، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة، الكذاب الدجال، وتقع في الأرض الأمنة، حتى ترتفع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى‏.‏، ويصلي المسلمون عليه» ويدفنونه في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحق- جلّ جلاله- أظهر هذا الآدمي في شكل غريب، وسر عجيب، جمع فيه بين الضدين، وأودع فيه سر الكونين، نوراني ظلماني، روحاني جسماني، سماوي أرضي، ملكوتي ملكي، معنوي حسيّ، أودع فيه الروح نورانية لاهوتية في نطفة ناسوتية، فوقع التنازع بين الضدين، فالروح تحن إلى وطنها اللاهوتي، والنطفة الطينية تحن إلى وطنها الناسوتي، فمن غلب روحانيته على طينته التحق بالروحانيين، وكان من المقربين في أعلى عليين، فصارت همته منصرفة إلى طاعة مولاه، والارتقاء إلى مشاهدة نوره وسناه، فانياً عن حظوظه وهواه، من غلبت طينته على روحانيته التحق بالبهائم أو الشياطين، وانحط إلى أسفل سافلين، وكانت همته منصرفة إلى حظوظة وهواه، غائباً عن ذكر مولاه، قد اتخذ إلهه هواه‏.‏

وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية، كيف غلبت روحانيته، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار، فانية في محبة الواحد القهار، حتى لحقت بوطنها، ورجعت إلى أصلها، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح المقام، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال‏.‏ والله- تعالى- أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أصل‏}‏ ‏{‏تعالوا‏}‏‏:‏ تَعالَيُوا، على وزن تفاعلوا، من العلو، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها، ثم حذفت، ومن قرأ بالضم نقل، وأصل معناها‏:‏ ارتفع، ثم أطلق على الأمر بالمجيء‏.‏ والابتهال‏:‏ التضرّع والمبالغة في الدعاء‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمن‏}‏ خاصمك يا محمد في شأن عيسى عليه السلام، وكان الذي خاصم في ذلك السيد والعاقب، لما قدموا مع نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسلما»، قالا‏:‏ قد أسلمنا قبلك، قال‏:‏ «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما عيسى لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير»، قالا‏:‏ إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه‏؟‏ فقال لهما النبيّ صلىلله عليه وسلم‏:‏ ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم كل شيء، ويحفظه، ويرزقه‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فهل ملك عيسى شيئاً من ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ألستم تلعمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما عُلِّم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث، قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يُغَذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ كيف يكون هذا كما زعمتم‏؟‏ فسكتوا «‏.‏‏.‏ فأنزل فيهم السورة إلى هنا‏.‏

فقال الحقّ لنبيه- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ ‏{‏فمن حاجّك فيه‏}‏ أي‏:‏ في عيسى من النصارى، ‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ بعبوديته، ‏{‏فقل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏ نَتَلاَعَنُ، أي‏:‏ نلعن الكاذبَ منا؛ ‏{‏ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم‏}‏ أي‏:‏ يدعون كل واحد منا نفسه وأعزّة أهله وألصفهم بقلبه إلى المباهلة، وإنما قدَّمهم على النفس؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم، فكان تقديمهم أبلغ في الابتهال، ‏{‏ثم نبتهل‏}‏، أي نجهد في الدعاء على الكاذب، ‏{‏فنجعل لعنة الله على الكاذبين‏}‏‏.‏

فلما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا‏:‏ حتى نرجع وننظر في أمرنا، فقالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-‏:‏ ما ترى‏؟‏ فقال‏:‏ والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قومٌ قط نبيّاً فعاش كبيرُهم، ولا نبت صغيرُهم، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن، فوادِعُوا الرَّجُلَ‏:‏ وانصرفوا، فأتوه وهو محتضنٌ الحسن آخذ بيد الحسين، وفاطمةُ تمشي خلفه، وعَلِيّ خلفها، وهو يقول لهم‏:‏» إِذَا دَعَوْتُ فَأمِّنُوا «، فقال الأسقُف‏:‏ يا معشر النصارى، إني لأرى وجُوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من ماكنه لأزاله، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعاً إلى يوم القيامة‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، نرى ألا نلاعنك، فقال النبيّ صلى لله عليه وسلم‏:‏ «أسْلِمُوا يَكُنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم»، فأَبَوا، فقال‏:‏ «إني أُنابذكم»، فقال‏:‏ ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تَرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفَيْ حلة، ألفاً في صَفَر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً من حديد‏.‏ فصالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبيّ‏:‏ «والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمُسِخُوا قِرَدَة، وخَنَازِيرَ، ولأضْرَمَ عَلَيْهِمْ الوَادِي نَاراً ولاستأصَل اللّهُ نَجْرَان وأهْلَهُ، ولَمَا حَالَ الحَوْلُ على النَّصَارى كُلِّهِْ حَتى هَلكوا»‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ الذي أوحينا إليك ‏{‏لهو القصص الحق وما من إله إلا الله‏}‏، خلافاً لما يزعم النصارى من التثليث، ‏{‏وإن الله لهو العزيز‏}‏ في ملكه ‏{‏الحكيم‏}‏ في صنعه، فلا أحد يساويه في قدرته التامة، ولا في حكمته البالغة، ‏{‏فإن تولوا‏}‏ وأعرضوا عن الإيمان، ‏{‏فإن الله عليم بالمفسدين‏}‏، الذي يعبدون غير الله‏.‏ ووضع المظهر موضع الضمير، ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين، بل يؤدي إلى فساد العالم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للمريد، الذي تحقق بخصوصية شخيه، أن يلاعن من يخاصمه فيه، ويبعد عنه كل البعد، ولا يهي له لئلا يركبه، ويدفع عن شيخه ما استطاع، فإنَّ هذا من التعظيم الذي هو سببٌ في سعادة المريد، ولا يصغي إلى المفسدين الطاعنين في أنصار الدين‏.‏ قلت‏:‏ وقد جاءني بعض من ينتسب إلى العلم من أهل فاس، فقال لي‏:‏ قد اتفقت علماء فاس على بدعة شيخكم، فقلت له‏:‏ لو اتفق أهل السماوات السبع والأرضين السبع، على أنه من أهل البدعة، لقلت أنا‏:‏ إنه من أهل السنّة، لأني تحققت بخصوصيته، كالشمس في أفق السماء، ليس دونها سحاب‏.‏ فالله يرزقنا حسن الأدب معهم والتعظيم إلى يوم الدين‏.‏ آمين، فمن أعرض عن أولياء الله من المنكرين؛ ‏{‏فإن الله عليم بالمفسدين‏}‏ ثم دعاهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه سائر الأديان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏‏:‏ مصدر، نعت للكلمة، والمصادر لا تثني ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضمت أو كسرت قصرت، كقوله‏:‏ ‏{‏مكاناً سوى‏}‏ أي‏:‏ مستوٍ‏.‏ وسواء كل شيء‏:‏ وسطه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 55‏]‏، أي‏:‏ وسطه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ اليهود والنصارى، ‏{‏تعالوا‏}‏‏:‏ هلموا ‏{‏إلى كلمة سواء‏}‏ أي‏:‏ عدل مستوية، ‏{‏بيننا وبينكم‏}‏؛ لا يختلف فيها الرسل والكتب والأمم، هي ‏{‏ألا نعبد إلا الله‏}‏ أي‏:‏ نوحده بالعبادة، ونقر له بالوحدانية، ‏{‏ولا نشكر به شيئاً‏}‏ أي‏:‏ لا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة، ‏{‏ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏}‏ أي‏:‏ لا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، لأنهم بشر مثلنا‏.‏

ولمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 31‏]‏ قال عدي بن حاتم‏:‏ ما كُنَّا نعبدهم يا رسول الله، قال‏:‏ «أَلّيْس كانُوا يُحِلُّون لَكُمْ ويُحرِّمون، فتأخُذُون بقَوْلِهم‏؟‏» قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ «هُوَ ذَاكَ» ‏{‏فإن تولوا‏}‏ وأعرضوا عن التوحيد ‏{‏فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏، فقد لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتبُ وتواطأت عليه الرسل‏.‏

تنبيه‏:‏ انظر ما في هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج في الاحتجاج، بيِّن أولاً أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، وسلك طريقاً أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب، ثم لمّا لم يُجد ذلك فيهم شيئاً، وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم شيئاً أعرض عنهم، وقال‏:‏ ‏{‏قولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ الطرق كثيرة والمقصد واحد، وهو التوحيد الخاص، أعني مقام الفناء والبقاء‏.‏ فالداعُون إلى الله كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها، وكل داع لا يُبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال، فإنْ رضي بتعظيم الناس، ولم يَبْنِ طريقه على الأساس، فليس لصاحبه إلا الإفلاس، وكل مَن أطاع المخلوق في معصية الله فقد اتخذه ربّاً من دون الله، وكل مَن تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه من الطرد والبعاد، فيقول له الواصلون أو السائرون‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ولما قدم وفدُ نجران المدينة، التقوا مع اليهود، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا محمد إنا اختلفنا في إبراهيم ودنيه، فقالت النصارى‏:‏ كان نصرانيّاً، وقالت اليهود‏:‏ كان يهوديّاً، وهم أولى الناس به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلا الفريقين بريء من إبراهيم، بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإسلام»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ها أنتم‏}‏‏:‏ أصله‏:‏ أنتم، دخلت عليه هاء التنبيه، وقال الأخفش‏:‏ أصله‏:‏ أأنتم، فقلبت الهمزة الأولى هاء، كقوله‏:‏ هرقت‏.‏ وتوجيه القراءات معلوم في محله، و‏{‏أنتم‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ خبره، و‏{‏حاججتم‏}‏‏:‏ جملة مبينة للأولى، أو ‏{‏حاججتم‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ منادى بحذف النداء، و‏{‏حنيفاً‏}‏‏:‏ حال، أي‏:‏ مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم‏}‏، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه، ‏{‏وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏}‏، فكيف يكون يهوديّاً، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة‏؟‏‏!‏ وكيف يكون نصرانيّاً، ودين النصارنية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة‏؟‏‏!‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ فتدعون المحال، ‏{‏هاأنتم‏}‏ يا ‏{‏هؤلاء‏}‏ الحمقى ‏{‏حاججتم فيما لكم به علم‏}‏ من أمر محمد- عليه الصلاة والسلام- ونبوته، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل، فأنكرتموه عناداً وحسداً، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم‏؟‏ ‏{‏والله يعلم‏}‏ ما خصمتم فيه، ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏، بل أنتم جاهلون‏.‏

ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً‏}‏ مائلاً عن العقائد الزائفة، ‏{‏مسلماً‏}‏ منقاداً لأحكام ربه‏.‏ وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام، وإلا لكان مشترك الإلزام، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً، فكان إبراهيم إمام الموحدين، ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ كما عليه اليهود والنصارى والمشركون‏.‏ ففيه تعريض بهم، ورد لادعائهم أنهم على ملته‏.‏

ثم ذكر مَنْ أولى الناس به، فقال‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم‏}‏ أي‏:‏ أخصهم به وأقربهم منه، ‏{‏للذين اتبعوه‏}‏ من أمته في زمانه، ‏{‏وهذا النبيّ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏والذين آمنوا‏}‏؛ لموافقتهم له في أكثر الأحكام، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكُلِّ نَبيَ وُلاة مِنَ النَّبيِّينَ، وإنَّ وَلِيِّي منهم أبِي وَخَلِيل ربِّي» يعني إبراهيم عليه السلام، ‏{‏والله ولي المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ناصرهم على سائر الأديان، ومجازيهم بغاية الإحسان‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم، ويخاصمون في طريق غيرهم، وهي نزعة أهل الكتاب، حائدة عن الرشد والصواب، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية، وتخلق بالأخلاق المرضية، وزهد في الدارين، ورفع همته عن الكونين، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه، حتى أشرقت عليه أنوار ربه، واتصل بأهل التربية النبوية، فزجوا به في بحار الأحدية، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل، فيا له من مقام جليل، فهذه ملة إبراهيم الخليل، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن، وقطب دائرة الزمان، سيد المرسلين، وإمام العارفين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لو‏}‏‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ تمنوا إضلالكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لبعض المسلمين- وهم حذيفة وعمار ومعاذ- دعاهم اليهود إلى دينهم وطمعوا فيهم‏:‏ ‏{‏ودت طائفة‏}‏ أي‏:‏ تمنت طائفة ‏{‏من أهل الكتاب لو يُضلونكم‏}‏ أي‏:‏ يفتنونكم عن دينكم، ويتلفونكم عن طريق الحق، ‏{‏وما يُضلون إلا أنفسهم‏}‏؛ لأن المسلمين لا يقبلون ذلك منهم، فرجع الضلال عليهم، وعاد وباله إليهم، وتضاعف عذابه عليهم، ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أن وباله راجع إليهم‏.‏

ثم صرّح الحق تعالى بعتابهم، فقال‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله‏}‏ المنزلة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتجحدون رسالته‏؟‏ ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ أنها من عند الله، وأنه نبيّ الله، وهو منعوت عندكم في التوراة والإنجيل، والمراد أحبارهم، أو تشهدون أنه نبيّ الله بالمعجزات الواضحات‏.‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل‏}‏ بالتحريف وإبراز الباطل في صورة الحق، حتى كتمتم نعت محمد وحرفتموه، وأظهرتم موضعه الباطل الذي سولت لكم أنفسكم‏؟‏ ‏{‏وتكتمون الحق‏}‏؛ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أنه رسول الله حقّاً وأن دينه حق، أو‏:‏ وأنتم عالمون بكتمانكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين، وممن ينتسب لهم، إذا رأوا من ظهر بالخصوصية في زمانهم يتمنون إضلالهم وإطفاء أنوارهم، خوفاً على زوال رئاستهم، ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏، ‏{‏وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 8‏]‏، وهذه نزعة يهودية سببها الحسد، والحسود لا يسود، وبعضهم يتحقق بخصوصية غيرهم، فيكتمها وهو يشهد بصحتها، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏}‏ ‏؟‏ و‏{‏لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏}‏ ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قال الحسن والسدي‏:‏ تواطأ اثنا عشر رجلاً من يهود خيبر- يعني من أحبارهم- وقال بعضهم لبعض‏:‏ ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد، واكفروا به آخره، وقولوا‏:‏ نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه‏.‏ ه‏.‏ فحذَّر الله المسلمين من قولهم، فقال جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أحبارهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا‏}‏ وأظهروا الدخول في دينهم، ‏{‏وجه النهار وكفروا آخره‏}‏ وقولوا‏:‏ نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فلم نجد محمداً بالنعت الذي في التوراة، لعل أصحابه يشكون فيه- لعنهم الله وأضلّ سعيهم‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في شأن الكعبة، فإنَّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف- من اليهود- قالا لأصحابهما‏:‏ صلّوا معهم إلى الكعبة أول النهار، ثم صلّوا إلى الصخرة آخره، لعلهم يقولون‏:‏ هم أعلم منا، وقد رجعوا، فيرجعون، ففضحهم الله وأبطل حيلهم الواهية‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من الناس يدخلون في طريق القوم، ثم تثقل عليهم أعباؤها، فيخرجون منها؛ إما لضعفهم عن حملها، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها، أو على حرف أو حيلة لغيرهم، فإذا رجع أحد منهم قال الناس‏:‏ لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها، وهذه نزعة إسرائيلية، قالوا‏:‏ آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لتَسْلُكن سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شِبْراً، وذِرَاعاً بذرَاع، حتى لَوْ دَخلُوا جُحْر ضَبٍّ لدخلْتُموه، قالوا‏:‏ اليَهُود والنًّصَارَى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فَمنْ إذن» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى‏}‏‏:‏ مفعولاً ب ‏{‏تؤمنوا‏}‏، و‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏‏:‏ اعترض، واللام في «لمن» صلة، ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏يؤتى‏}‏، والتقدير‏:‏ ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من كان على دينكم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، بل أنتم تحاجون غيركم‏.‏ فردَّ الله عليهم ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏، و‏{‏إن الفضل بيد الله‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى‏}‏ مفعولاً لأجله، والعامل فيه محذوف، التقدير‏:‏ أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يؤتى أحد ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم‏؟‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ حاكياً عن اليهود‏:‏ ‏{‏و‏}‏ قالوا ‏{‏لا تؤمنوا‏}‏ أي‏:‏ لا تقروا أو تصدقوا ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل، ‏{‏إلا لمن تبع‏}‏ دين اليهودية، وكان على ‏{‏دينكم‏}‏، ولا تؤمنوا أن ‏{‏يحاجوكم عند ربكم‏}‏؛ لأنكم أصح ديناً منهم‏.‏ قال الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إن الهدى هدى الله‏}‏ يهدي به من يشاء، و‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وقالوا‏:‏ لا تصدقوا ولا تذعنوا ‏{‏إلا لمن تبع دينكم‏}‏ وكان من جلدتكم، فإن النبوة خاصة بكم‏.‏ فكذبهم الحق بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏، يخص به من يشاء من عباده، فكيف تحصرنها فيكم‏؟‏ لأجل ‏{‏أن يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم‏}‏ قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم، حسداً وبغياً، ‏{‏أو‏}‏ خوفاً أن ‏{‏يحاجوكم عند ربكم‏}‏، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم، ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏؛ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع‏.‏

أو يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ للمؤمنين، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم‏:‏ ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق، وجاء به من عند الحق، ولا تصدقوا ‏{‏أن يحاجوكم‏}‏ في دينكم ‏{‏عند ربكم‏}‏ أو يقدر أحد على ذلك، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله، ‏{‏يؤتيه من يشاء والله واسع‏}‏ الفضل والكرم، ‏{‏عليم‏}‏ بمن يستحق الخصوصية والفضل، ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ كالنبوة وغيرها، ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏؛ لا حصر لفضله، كما لا حصر لذاته‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق- جلت ذاته، وعظمت قدرته- لأهل الخصوصية‏:‏ ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم، وتزيّاً بزيكم، وبذل نفسه وفلسه في صحبتكم، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية، وهو ليس أهلاً لها، فيأخذها علماً، فإما أن يتزندق أو يتفسق، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم؛ كما وقع للحلاج رضي الله عنه وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا *** وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ

كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ *** لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني

وقال آخر‏:‏

بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ *** وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ

وقل أيها العارف، لمن طلب الخصوية قبل شروطها أو أنكر وجودها عند أهل شرطها‏:‏ إن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء- والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والرحمة- التي هي الخصوصية- في قبضة الله، يخص بها من يشاء، ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏؛ فمن أراد الخصوصية فليطلبها من معدنها، وهم العارفون بها، فيبذل نفسه وفلسه لهم حتى يُعرفوه بها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الباء في ‏{‏بقنطار‏}‏، بمعنى على، و‏{‏يؤده‏}‏‏:‏ جواب الشرط مجزوم بحذف الياء، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف، فجزمه عوضاً عنه، وقال الفراء‏:‏ مذهب بعض العرب‏:‏ يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون‏:‏ ضربته ضرباً شديداً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب‏}‏ من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان ‏{‏إن تأمنه‏}‏ على ‏{‏قنطار‏}‏ من المال أو أكثر أداه إليك، ولم يخن منه شيئاً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من ائتمن على أمانة فأداها، ولو شاء لم يؤدها، زوجه الله من الحور العين ما شاء» ‏{‏ومنهم‏}‏ من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران، ‏{‏إن تأمنه‏}‏ على ‏{‏دينار‏}‏ فأقل ‏{‏لم يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ على رأسه، مبالغاً في مطالبته‏.‏ نزلت في عبد الله بن سلام، استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً، فأداها إليه، وفي فنحاص بن عازوراء اليهودي، استودعه قرشي آخر ديناراً، فجحده‏.‏ وقيل‏:‏ في النصارى واليهود، فإن النصارى‏:‏ الغالب عليهم الأمانة، واليهود الغالب عليهم الخيانة‏.‏

وذلك الاستحلال بسبب أنهم ‏{‏قالوا ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ أي‏:‏ ليس علينا في شأن من ليسوا أهل كتاب، ولم يكونوا على ديننا، حرج في أخذ مالهم وجحدها، ولا إثم، ‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ أنهم كاذبون؛ لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم، وقالوا‏:‏ لم يجعل لهم في التوراة حرمة‏.‏

وقيل‏:‏ عَاملَ اليهودُ رجلاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، فقالوا‏:‏ سقط حقكم حيث تركتم دينكم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللّهِ، مَا مِنْ شَيءٍ فِي الجاهِلية إلاّ وَهُو تَحْتَ قَدَمَي، إِلاَّ الأمَانَةَ فإِنهَا مُؤداةٌ إلى الْبَر والفَاجِر»‏.‏

ثم كذَّبهم الحقّ- تعالى- فقال‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏؛ عليهم في ذلك سبيل، فإن ‏{‏من أوفى بعهده واتقى‏}‏ الشرك والمعاصي ‏{‏فإن الله يحب المتقين‏}‏ ومن أحبّه الله كيف يباح ماله وتسقط حرمته‏؟‏‏!‏ بل من أسقط حرمته فقد حارب الله ورسوله، أو ‏{‏من أوفى‏}‏، بعهد الله من أهل الكتاب، فآمن بمحمد- عليه الصلاة والسلام- ‏{‏واتقى‏}‏ الخيانة، وأدى الأمانة، ‏{‏فإن الله يحب المتقين‏}‏‏.‏ وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى «من»؛ لعمومه، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره، إشعاراً بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة، فتساهل في أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد، حتى لا تثق به في حفظ مال ولا أهل، فإذا أودعته شيئاً أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏.‏ وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية‏.‏ لا يرضاها أدنى الناس، فما بالك بمن يدعي أنه أعلى الناس، وفي بعض الحكم‏:‏ ‏[‏كَمَالُ الديانة ترك الخيانة‏]‏، وأعظم الإفلاس خيانة الناس، وفي الحديث‏:‏ «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُواَ مُنَافقٌ، وإنْ صَلَّى وإن صَامَ وزَعم أنه مُؤْمن، إذ حدَّثّ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ» فإذا احتج لنفسه الأمارة، وقال‏:‏ لا سبيل علينا في متاع العوام، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام، واستحق أن يعلو مفرقه الحُسام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله‏}‏ أي‏:‏ يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول- عليه الصلاة والسلم- الذي أخذ على بني إسرائيل في التوراة وبيان صفته، وأداء الأمانة، فكتموا ذلك واستبدلوا به ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏؛ حطاماً فانياً من الدنيا، كانوا يأخذونه من سفلتهم، فخافوا إن بيَّنوا ذلك زال ذلك عنه، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فنقضوها، خوفاً من زوال رئاستهم، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمناً فانياً، ‏{‏أولئك لا خلاق لهم‏}‏ أي‏:‏ لا نصيب لهم، ‏{‏في الآخرة، ولا يكلمهم الله‏}‏ بما يسرهم، أو بشيء أصلاً، وإنما الملائكة تسألهم، ‏{‏ولا تنظر إليهم يوم القيامة‏}‏ نظرة رحمة، بل يعرض عنهم، غضباً عليهم وهواناً بهم، ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏؛ لا يطهرهم من ذنوبهم، أو لا يُثني عليهم، ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ أي‏:‏ موجع‏.‏

قال عكرمة‏:‏ نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب، وغيرهم من رؤساء اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان صفته، فكتموا ذلك وكتبوا غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إن ناساً من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة، فأصابتهم سنة، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه، أي‏:‏ يطلبون منه الميرة- وهو الطعام-، فقال لهم كعب‏:‏ هل تعلمون أن هذا الرجل رسول في كتابكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، أو ما تعلمه أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالوا‏:‏ فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله، قال كعب‏:‏ لقد قدمتم عليَّ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم، فَحَرَمَكُم الله خيراً كثيراً، قالوا‏:‏ فإنه شُبه لنا، فرُوَيْداً حتى نلقاه، فانطلقوا، فكتبوا صفة غير صفته، ثم أتوا نبيّ الله- عليه الصلاة والسلام- فكلموه، ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا‏:‏ قد كنا نرى أنه رسول الله، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نُعت لنا، وأخرجوا الذي كتبوه، ففرح كعب، ومارهم‏.‏ فنزلت الآية‏.‏ قلت‏:‏ انظر الطمع، وما يصنع بصاحبه والعياذ بالله‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في رجل أقام سلعته في السوق، وحلف لقد أعطى فيها كذا وكذا، وقيل‏:‏ نزلت في الأشعث بن قيس، كانت بينه وبين رجل خصومة، فتوجهت اليمين على الرجل، فأراد أن يحلف‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره، ولا يميلوا إلى شيء سواه، فكل من مال إلى شيء، أو ركن بالمحبة إلى غير الله، فقد نقض العهد مع الله، فلا نصيب له في مقام المعرفة، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه‏.‏ والله- تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لفريقاً‏}‏، وهو كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ومالك بن الصيف، وأبو ياسر، وشعبة بن عامر، ‏{‏يلوون‏}‏ أي‏:‏ يفتلون ‏{‏ألسنتهم بالكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة عند قراءته، فيميلون عن المنزل إلى المُحرف، ‏{‏لتحسبوه من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ لتظنوا أن ذلك المحرف من التوراة، ‏{‏وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب‏}‏ فيما نسبوا إليه، ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أنه ليس من عند الله‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف، فبيَّن الله كذبهم، وقيل‏:‏ في الرجم، حيث كتموا الرجم، وألقى قارئ التوراة يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له ابنُ سلام‏:‏ ارفع يديك، فإذا آية الرجم تلوح‏.‏ والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الآية تنسحب على علماء السوء، الذي يفتون بغير المشهور، لحظ يأخذونه من الدنيا، وعلى قضاة الجور الذين يحكمون بالهوى، ويعتمدون على الأقوال الواهية، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله‏.‏

وكذلك بعض المنتسبين من الفقراء، يتصنعون إلى العامة، يطمعون فيما في أيديهم من الحطام، فيظهرون لهم علوماً ومعارف وحكماً، يلوون ألسنتهم بها وقلوبهم خاوية من معناها، فظاهر حالهم يُوهم أن ذلك موافق لقلوبهم، وأنهم عاملون بذلك، وباطنهم يكذبهم في ذلك، ‏{‏وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 213‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ البشر‏:‏ اسم جمع لا مفرد له، يطلق على الجماعة والواحد‏.‏ والرباني‏:‏ هو الذي يُربي الناس ويؤدبهم ويُهذبهم بالعلم والعمل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏هو الذي يُربي الناس بصغار العلم قبل كباره‏)‏، والنون فيه للمبالغة، كلحياني ورقباني‏.‏ و‏{‏ولا يأمركم‏}‏ بالرفع، استئناف، وبالنصب‏:‏ عطف على ‏{‏يقول‏}‏، و‏{‏لا‏}‏ مزيدة‏:‏ أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة أرباباً‏.‏ أو غير مزيدة، والتقدير‏:‏ ليس له أن يأمر بعبادته ولا باتخاذ الملائكة أرباباً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكْمَ‏}‏ أي‏:‏ الفصل بين العباد، ‏{‏والنبوة‏}‏ أي‏:‏ الوحي بالأحكام، ‏{‏ثم يقول‏}‏ بعد ذلك ‏{‏للناس كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ أو مع الله، أو يرضى أن يُعبد من دون الله، ‏{‏ولكن‏}‏ يقول لهم‏:‏ ‏{‏كونوا ربانيين‏}‏ أي‏:‏ علماء بالله، فقهاء في دينه، حلماء على الناس، تُربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال، بسبب ‏{‏ما كنتم تعلمون‏}‏ من كتاب الله ‏{‏وبما كنتم تدرسون‏}‏ منه، أو ‏{‏بما كنتم تُعَلِّمُون‏}‏ الناس من الخير بكتاب الله، وما كنتم تدرسونه عليهم‏.‏ ولما مات ابن عباس- رضي الله عنهما- قال محمد ابن الحنيفة‏:‏ ‏(‏مات ربَّاني هذه الأمة‏)‏‏.‏

‏{‏ولا يأمركم‏}‏ ذلك البشر الذي خصه الله بالنبوة، ‏{‏أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏}‏ من دون الله، ‏{‏أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏ أي‏:‏ مناقدون لأحكام الله‏.‏ قيل‏:‏ سبب نزول الآية‏:‏ أن نصارى نجران قالوا‏:‏ يا محمد؛ تريد أن نعبدك ونتخذك ربّاً‏؟‏ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «معاذ الله أن نعبد غيرَ الله، أو نَأمُرَ بعبادة غيره» وقيل‏:‏ إن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ نُسلِّم عليك كما يُسلِّم بعضُنا على بعض، أفلا نسجُد لك‏؟‏ فقال‏:‏ «لا يَنْبَغِي ان يسجد احدٌ لأحدٍ من دُونِ اللهِ، ولكنْ أكْرِموا نَبِيَّكُمْ، واعْرِفُوا الحقَّ لأَهْلِه»‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زال الفقراء يعظمون أشياخهم، ويبالغون في ذلك حتى يُقبِّلون أرجلهم والترابَ بين أيديهم، ويجتهدون في خدمتهم، فإذا رءاهم الأشياخ فعلوا ذلك سكتوا عنهم، لأن ذلك هو ربحهم وسبب فتحهم، وفي ذلك قال القائل‏:‏

بذَبْح النفوس وحط الرؤوس تُصفى الكؤوس *** لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة، حتى يفنوهم عن شهود الواسطة، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره، وحينئذٍ يكونون ربانيين، علماء بالله مقربين، وكان شيخنا يقول‏:‏ لا تزوروني على أني شيخكم، ولكن اعرفوا فينا، وافنوا عن رؤية حسناً، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا‏.‏ ه‏.‏ فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصوداً لأنفسهم، وحاشاهم من ذلك‏.‏ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم‏:‏ كونوا ربانيين عارفين بالله، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله، ولا يأمر أيضاً بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أرباباً من دون الله، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله، وكيف يأمرهم بالفرق، وهو إنما يدلهم على الجمع‏؟‏ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين‏.‏ ولله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اللام في ‏{‏لما‏}‏، موطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، و‏{‏ما‏}‏‏:‏ يحتمل الشرطية، و‏{‏لتؤمنن‏}‏‏:‏ جواب القسم، سد مسد الجواب، أي‏:‏ مهما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله لتؤمنن به‏.‏ ويحتمل الموصولية، و‏{‏لتؤمنن‏}‏‏:‏ خبر عنه، وحذف شرط يدل على السياق؛ أي‏:‏ للذي آتيناكم من كتاب وحكمة، ثم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به‏.‏ ومن قرأ بكسر اللام كان تعليلاً للأمر بالإيمان بالرسول، أي‏:‏ لأجل الذي خصصتكم به إذا جاءكُمْ رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وإذا كان أخذ الله الميثاق على الأنبياء كان على الأتباع أولى، أو استغنى بذكر الأنبياء عن ذكر أتباعهم؛ لأنهم في حكمهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إذ أخذنا‏}‏ الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام‏.‏ وقلنا لهم‏:‏ والله للذي خصصتكم به ‏{‏من كتاب وحكمة‏}‏، ثم إن ظهر رسول ‏{‏مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه‏}‏ أنتم وأممكم، أو‏:‏ لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمداً لتؤمنن به ولتنصرنه‏.‏ قال سيدنا عليّ- كرّم الله وجهه-‏:‏ ‏(‏لم يبعث اللّهُ نبيّاً، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد، وأمره بأخذ العهد على قومه ليُؤْمنُنَّ به، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لينْصُرُنَّه‏)‏‏.‏

‏{‏قال‏}‏ الحقّ جلّ جلاله لمن أخذ عليهم العهد‏:‏ ‏{‏أأقرتم‏}‏ بذلك وقبلتموه، ‏{‏وأخذتم على ذلكم إصري‏}‏ أي‏:‏ عهدي وميثاقي‏؟‏ ‏{‏قالوا أقررنا‏}‏ وقبلنا، ‏{‏قال فاشهدوا‏}‏ على أنفسكم، أو ليشهدْ بعضكم على بعض بالإقرار، أو فاشهدوا يا ملائكتي عليهم، ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين‏}‏، وفيه توكيد وتحذير عظيم، ‏{‏فمن تولى بعد ذلك‏}‏ الإقرار والشهادة، وأعرض عن الإيمان به، ونصره بعد ظهوره، ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏ الخارجون عن الإيمان المتمردون في الكفران‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم في الإيمان به عليه الصلاة والسلام، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة، لئن أدركوا وليّاً من أولياء الله، حاملاً لواء الحقيقة، مصدقاً لما معهم من الشريعة، ليؤمنن به ولينصرنه، من تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية، محرومون من سابق العناية، فإن الحقيقة إنما هي لب الشريعة وخلاصتها، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد، فالشريعة كالجسد، والحقيقة كالروح، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد، فلا قيام لهذا إلا بهذا، فنم تشرَّع ولم يتحقَّق تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره، وإليه توجه الإنكار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أفغير‏}‏‏:‏ مفعول مقدم، و‏{‏يبغون‏}‏‏:‏ معطوف على محذوف، أي‏:‏ أتتولون فتبغون غير دين الله، وقدم المعمول؛ لأنه المقصود بالإنكار، و‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏‏:‏ حالان، أي‏:‏ طائعين أو كارهين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ للنصارى واليهود، لمَّا اختصموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم، فقال لهم- عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كِلاكما بَرِيءٌ مِنْ دِينه، وأنا على دِينه، فخذوا به»، فغضبوا، وقالوا‏:‏ والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله- منكراً عليهم-‏:‏ أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه، وقد انقاد له تعالى ‏{‏من في السماوات والأرض‏}‏ طائعين ومكرهين، فأهل السموات انقادوا طائعين، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعاً بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها، ومنهم من انقاد كرهاً أو بمعاينة ما يُلجئ إلى الإسلام؛ كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت، أو‏:‏ «طوعاً» كالملائكة والمؤمنين، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعاً، ‏{‏وكرهاً‏}‏ كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرهاً، وكلٍّ إليه راجعون، لا يخرج عن دائرة حكمه، أو راجعون إليه بالبعث والنشور‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله في الظاهر والباطن، أما الانقياد إلى الله في الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأما الانقياد إلى الله في الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره‏.‏ فكل من قصَّر في الانقياد في الظاهر، أو تسخط من الأحكام الجلالية في الباطن، فقد خرج عن كمال الدين، فيقال له‏:‏ أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له ‏{‏من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏، فإما أن تنقاد طوعاً أو ترجع إليه كرها‏.‏ وفي بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ «منْ لم يَرْضَ بقضائي ولم يَصْبِرْ على بَلائِي، فليخرجْ من تحت سَمَائي، وليتخذْ ربّاً سِوَاي»‏.‏

وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضُه وضعف نور يقينه، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب، فله من هذا العتاب حظ ونصيب، فالأولياء حجة الله على العلماء، والعلماء حجة الله على العوام، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء، أعني العارفين‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أُنزل‏}‏‏:‏ يتعدى بإلى؛ لأنه ينتهي إلى الرسل، ويتعدى بعلى، لأنه يأتي من ناحية الحلو والاستعلاء، وفرَّق بعضهُم بين التعبير هنا بعلى وفي البقرة بإلى، فقال‏:‏ لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص، وقد أنزل عليه الوحي مباشرة، وهناك الخطاب للمسلمين، وإنما أنزل الوحي متوجهاً إليهم بالواسطة، ولم يكن عليهم بالمباشرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لأهل الكتاب الذين فرقوا في إيمانهم بين الرسل‏:‏ أما نحن فقد آمنا بالذي ‏{‏أنزل علينا وما أنزل‏}‏ على جميع الأنبياء والرسل ‏{‏لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ كما فرَّقتم أنتم، فَضَلَلْتُم، ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ أي‏:‏ منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة، أو مخلصون في أعمالنا كلها، وقدَّم المنزل علينا على المنزل على غيرنا، لأنه عيار عليه ومُعَرَّفٌ به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للفقير أن يبالغ في تعظيم شيخه، ويسوغ له التغالي في شأنه ما لم يخرجه عن طَوْر البشر، وما لم يؤد ذلك إلى إسقاط حُرمة غيره من الأولياء بالتنقيص أو غيره، فحرمة الأولياء كحرمة الأنبياء، فمن فرّق بينهم حُرِم بركة جميعهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وشهدوا‏}‏‏:‏ عطف على ما في ‏{‏إيمانهم‏}‏ من معنى الفعل، والتقدير‏:‏ بعد أن آمنوا وشهدوا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لرجال من الأنصار ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم الحارث بن سويد الأنصاري‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ يطلب ‏{‏غير الإسلام ديناً‏}‏ يتدين به ‏{‏فلن يُقبل منه‏}‏ أبداً، ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏؛ لأنه أبطل الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، واستبدلها بالتقليد الرديء، بعد أن عاين سواطع البرهان، وشهدت نفسه بالحق والبيان، ولذلك وقع التعجب والاستبعاد من هدايته فقال‏:‏ ‏{‏كيف يهدي الله قوماً كفروا‏}‏ بعد أن آمنوا، ‏{‏وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات‏}‏ أي‏:‏ المعجزات الواضحات، فإن الحائد عن الحق بعدما وضح، منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، فقد ظلم نفسه وبخسها، ‏{‏والله لا يهدي القوم القوم الظالمين‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضعوا الكفر موضع الإيمان، ولعل هذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ المرتدون عن الإسلام- ‏{‏جزاؤهم‏}‏‏:‏ أن تلعنهم الملائكة والناسُ أجمعون، مؤمنُهم وكافرهم، لأن الكافر يلعنُ من ترك دين الحق، وإن كان لا يشعر بمن هو على الحقّ‏.‏ ‏{‏خالدين‏}‏ في اللعنة، أو في النار، لدلالة السياق عليها، أو في العقوبة‏.‏ ‏{‏لا يخفّف عنهم العذاب‏}‏ ساعة، ولا هم يُمهلون عنها لحظة‏.‏

ثم إنَّ الحارث نَدِم، وأرسل إلى قومه أن اسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ إلا مَن تاب من بعد الردة، فأسلم وأصلح ما أفسد، ‏{‏فإن الله غفور‏}‏ له فيما فعل، ‏{‏رحيم‏}‏ به حيث تاب‏.‏

ولمّأ نزلت الآية حملها إليه رجلٌ من قومه وقرأها عليه، فقال الحارث‏:‏ إنك ولله فيما علمت لصدوق، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله- تعالى- لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة، فأسلم وحَسُن إسلامُه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن ابتغى الخصوصية من غير أهلها، أو ادعاها ولم يأخذْها من معدنها، فلن تُقبل منه، وهو عند القوم من الخاسرين في طريق الخصوص، فكل من لا شيخ له في هذا الشأن فهو لقيط، لا أب له، دَعِيٍّ، لا نسب له‏.‏

والمراد بأهلها‏:‏ العارفون بالله، أهلُ الفناء والبقاء، أهل الجذب والسلوك، أهل السكر والصحو، الذين شربوا الخمر فسكروا ثم صحوا وتكملوا، فمعدنُ الخصوصية عند هؤلاء، فكل من لم يصحبهم ولم يشرب من خمرتهم، لا يُقتدى به، ولو بلغ من الكرامة ما بلغ، وأخسرُ مِنْ صحب أهل هذه الخمرة، وشهد بأن طريقهم حق، ثم رجع عنها، فهذا مغبون ملعون عند كافة الخلق، أي‏:‏ مطرود عن شهود الحق، إلا مَن تاب ورجع إلى صحبتهم والأدب معهم، فإن الله غفور رحيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ ارتدوا عن الإيمان ‏{‏ثم ازدادوا‏}‏ في الكفر، وقالوا‏:‏ نتربص بمحمد ريب المنون، ‏{‏لن تقبل توبتهم‏}‏ أي‏:‏ لا توبة لهم فتقبل، لأنه سبق لهم الشقاء، أو لأنهم لا يتوبون إلا عند الغرغرة، أو ‏{‏لن تقبل توبتهم‏}‏ ما داموا على كفرهم‏.‏ ‏{‏وأولئك هم الضالون‏}‏ المنهمكون في الضلالة‏.‏

قيل‏:‏ نزلت في أصحاب الحارث بن سويد المتقدم، وكانوا أحد عشر رجلاً، لما رجع الحارثُ قالوا‏:‏ نقيم بمكة على الكفر ما بَدا لنا، فمتى أردنا الرجعة رجعنا، فلما افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، دخل في الإسلام بعضُهم، فقُبلت توبته، وبقي من بقي على كفره، فنزلت الآية فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في اليهود، كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ نزلت في النصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بعيسى، ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ بإصرارهم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الفريقين معاً، كفرا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل ظهوره، ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ بتمردهم فيه، وتماديهم على المعاصي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن من دَخَل طريق التربية، وأخذ في تهذيب نفسه وتطهيرها من المساوئ وأوساخ الحس، ثم غلبته القهرية ورجع عنها، فإن تاب قريباً ورجع إليها سهل عليه الرجوع، ورجى نجحه وقبلت توبته، وإن استمر على رجوعه عنها حتى ألفت نفسه البطالة؛ لن ترجى توبته وصار من الضالين، فمثله كآنية، فرَّغت منها لبناً أو عسلاً، وعَمَرْتها بالقطران، فإن بادرت بإهراقه منها قريباً سهل غسلها، وإن أمهلتها حتى صبغ فيها عَسُر غسلها، وتعذب زوال راحته منها‏.‏ ‏[‏فإن مات على رجعته فلا يحشر في الآخرة مع أهل هذه الرفقة، ولو شفع فيه ألف عارف، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه في الآخرة على غيره، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو، فلا يخطر بباله أنه يشفع فيه‏]‏‏.‏ قاله القشيري‏.‏

قال المحشي‏:‏ وما ذكره ربما ينظر إلى قضية الخليل مع أبيه، حين يلقاه وعليه القترة، فيريد الشفاعة له، فيمسخ ذيخاً متلطخاً- أي‏:‏ خنزيراً- فينكره، كما في الحديث الصحيح، فتذكر واعتبر‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ذهباً‏}‏‏:‏ تمييز، و‏{‏لو افتدى به‏}‏‏:‏ محمول على المعنى، كأنه قيل‏:‏ فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، أو عطف على محذوف، أي‏:‏ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تقرب به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب في الآخرة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏، واستمروا على كفرهم حتى ماتوا، ‏{‏يقبل‏}‏ منهم فدية، ولو افتدوا بملء الأرض ذهباً، بل يحصل لهم الإياس من رحمة الله، ‏{‏أولئك لهم عذاب أليم‏}‏؛ فلا ينفعهم فداء منه ولا شفاعة ولا حميم، ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ ينصروهم من عذاب رب العالمين‏.‏

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يُجَاءُ بالكَافِر، يومَ القيامةِ، فيُقال له‏:‏ أرأيتَ لو كان لكَ ملءُ الأرض ذهباً- أكنْتَ مفتدِياً به‏؟‏ فيقولُ‏:‏ نعم، نعم، فيُقال له‏:‏ قد سُئلْتَ ما هو أيسرُ من ذلك» يعني‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ ثبتنا الله عليها إلى الممات عالمين بها‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من كفر بطريق أهل الخصوصية، وحرم نفسه من دخول الحضرة القدوسية، واستمر على كفرانه إلى الممات، فلا شك أنه يحصل له الندم وقد زلّت به القدم، لأنه مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر، فإذا حشر مع عوام المسلمين، وسَكَن في رَبضِ الجنة مع أهل اليمين، ثم رأى منازل المقربين في أعلى عليين، ندم وتحسر، وقد غلبه القدر، فلو اشترى المُقَام معهم بملء الأرض ذهباً ما نفعه ذلك، فيمكث في غمّ الحجاب وعذاب القطيعة هنالك، مقطوع عن شهود الأحباب على نعت الكشف والبيان، ممنوع عن الشهود والعيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ البرّ‏:‏ كمال الطاعة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لن تنالوا‏}‏ كمال الطاعة والتقرب ‏{‏حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏، أو‏:‏ لن تنالوا برَّ الله الذي هو الرضى والرضوان، ‏{‏حتى تنفقوا‏}‏ بعض ما ‏{‏تحبون‏}‏ من المال وغيره، كبذل الجاه في معاونة الناس، إن صحبه الإخلاص، وكبذل البدن في طاعة الله، وبذلك المهج في سبيل الله‏.‏ ولمّا نزلت الآية جاء أبو طلحة فقال‏:‏ يا رسول الله، إن أحب أموالي إِليَّ بَيْرُحاء- وهو بستان كان خلف المسجد النبوي- وهو صدقة لله، أرجوا برّها وذخرها، فقال له- عليه الصلاة والسلام- «بَخٍ بَخٍ؛ ذَلَكَ مَالٌ رَابحٌ- أو رائح- وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ» فقسمها أبو طلحة في أقاربة‏.‏

وجاء زيدٌ بنُ حَارِثَةَ بفرسٍ كان يُحبها، فقال‏:‏ هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسولُ الله أسامة ولده، فقال زيد‏:‏ إنما أردت أن أتصدق بها، فقال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ قَبِلَهَا» فدلّ ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل‏.‏ وأعتقت امرأةٌ جارية لا تملك غيرها، كانت تحبها، واشترطت عليها أن تقيم معها، فلما عُتِقَتْ، ذهبت، فقال لها عليه الصلاة والسلام‏:‏ «دعيها فقد حجَبْتِك عن النار»‏.‏

وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبي العراق، فلما جيء بها، ورآها عمرُ أعجبْته غايةً، فقال‏:‏ إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏، فأعتقها‏.‏ وذكر ابن عمر هذه الآية، فلم يجد عنده أحبَّ من جارية كانت عنده، يطؤها فأعتقها، وقال‏:‏ لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها‏.‏ وكان الربيع يعطي للسائل إذا وقف في بابه السكر، فإذا قيل له في ذلك، قال‏:‏ إن الربيع يحب السكر‏.‏

ثم إن الله- تعالى- يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏؛ فيجازيكم بحسبه‏.‏

الإشارة‏:‏ ليس للفقير شيء أحبُّ من نفسه التي بين جنبيه، بل عند جميع الناس، فمن بذل روحه في مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته، وهو غاية البر، فمن أذل نفسه لله أعزه الله، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله، من تواضع لله رفع، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر، وأنفق غاية ما يُحب، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى، إذ ليس أعز منها، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

مَا لِي سِوَى رُوحِي، وباذل نَفْسه *** في حُبّ من يَهْوَاهُ ليس بُمُسْرِفِ

فَلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسْعَفْتَني *** يا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ

وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي‏:‏ حقيقة المحبة أن تهب كُلَّكَ لمن أحببته، حتى لا يبقى لك منك شيء‏.‏ ه‏.‏ وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ لن تناولا محبة الله حتى تسخُوا بأنفسكم لله‏.‏ ه‏.‏

ولما قال عليه الصلاة والسلام لليهود‏:‏ «أنا على ملة إبراهيم»- كما تقدم- قالوا‏:‏ كيف تكون على ملة إبراهيم، وأنت تأكل لحوم الإبل وإلبانها‏؟‏، وكان ذلك حراماً على إبراهيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إسرائيل‏}‏‏:‏ هو يعقوب عليه السلام‏.‏

قول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان‏}‏ حلالاً على بني إسرائيل، كما كان حلالاً على الأنبياء كلهم، ‏{‏إلا ما حرم إسرائيل‏}‏ أي‏:‏ يعقوب، ‏{‏على نفسه‏}‏، كلحوم الإبل وألبانها، قيل‏:‏ كان به عرق النسا، فنذر‏:‏ إن شفاه الله لم يأكل أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحب الطعام إليه‏.‏ وقيل‏:‏ فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء، فترك ذلك بنوه ولم يحرم عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم‏.‏

فالطعام كله كان حلالاً على بني إسرائيل وعلى الأنبياء كلهم قبل نزول التوراة، فلما نزلت التوراة حرم الله عليهم أشياء من الطيبات لظلمهم وبغيهم، فإن ادعوا أن لحوم الإبل كانت حراماً على إبراهيم، وأن كل ما حرم عليهم كان حراماً على إبراهيم وعلى الأنبياء قبله، فقل لهم‏:‏ كذبتم؛ ‏{‏فأتوا بالتوراة فاتلوها‏}‏ هل تجدون ذلك فيها‏؟‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في قولكم‏:‏ إنَّ كل شيء حرم عليكم كان حراماً على إبراهيم، رُوِيَ‏:‏ أنه- عليه الصلاة والسلام- لما قال لهم ذلك بهتوا، ولم يجسروا أن يأتوا بالتوراة، فتبين افتراؤهم على الله؛ ‏{‏فمن افترى على الله الكذب‏}‏ بزعمه أن الله حرَّم لحوم الإبل وألبانها قبل نزول التوراة، ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ البيان وإلزامهم الحجة، ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ المكابرون بالباطل بعدما وضَح الحق‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏صدق الله‏}‏ فيما أنزل، وكذبتم فيما قلتم، فتبين أن ملة إبراهيم هي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واتبعوا ‏{‏ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏، فإن ملة الإسلام موافقة لملة إبراهيم، أو عينُها، فادخلوا فيه وتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة، وألزمَتْكُم تحريمَ طيباتٍ أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه، وقد خالفتم التوراة التي زعمتم أنكم متمسكون بها، وأشركتم مع الله عزيراً وغيره، وقد كان إبراهيم حنيفاً مسلماً ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ فيه إشارة إلى أن اتَّبَاعَهُ- أي‏:‏ إبراهيم- واجبٌ في التوحيد الصرف والاستقامةِ في الدين، والتجنب عن الإفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود‏.‏ ه‏.‏ الإشارة‏:‏ إذا تحقق للفقير الإخلاص، وحصل على التوحيد الخاص، كان الطعام كله حلالاً له، لأنه يأخذه بالله، ويتناوله من يد الله ويدفعه لله، مع موافقة الشريعة، ولم يغض من أنوار الطريقة؛ بحيث لا يصحبه شرهٌ ولا طمعٌ‏.‏ وكان عبد الله بن عمر يقول‏:‏ كُلْ ما شئت، والبَسْ ما شئت، ما أخطأتك خصلتان‏:‏ سرف أو مخيلة‏.‏ ه‏.‏

وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما، فتعطلهم عن العبادة، وكذلك المريدون السائرون، ينبغي لهم التقلل من تناولها؛ لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها، فتعطلهم عن السير، وأما الواصلون العارفون، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم، فهم يأخذون بالله من يد الله، كما تقدم‏.‏

والحاصل‏:‏ أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها، وجب جهادها ومخالفتها، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها، والله تعالى أعلم‏.‏

ولمّا كانت اليهود لا تحجُّ بيت الله الحرام، الذي بناه خليل الله إبراهيم عليه السلام، مع زعمهم أنهم على ملته، ردَّ الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن أول بيت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود‏:‏ بيت المقدس أفضل؛ لأنه مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون‏:‏ الكعبة أفضل؛ لأنه أول بيت وضع في الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بكة‏}‏‏:‏ لغة في مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، تقول‏:‏ ضربة لازم ولازب، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ، وقيل‏:‏ ‏{‏مكة‏}‏ بالميم‏:‏ اسم للبلد كله، وبكة‏:‏ اسم لموضع البيت، سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة- أي‏:‏ تدقها- فما قصدها جبَّار بسوء إلا قصمه الله‏.‏ و‏{‏مباركاً‏}‏‏:‏ حال من الضمير في المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أي‏:‏ الذي استقر ببكة مباركاً، و‏{‏مقام إبراهيم‏}‏‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ منها مقام إبراهيم، أو بدل من ‏{‏آيات‏}‏، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، على أن المراد بالآيات‏:‏ أثر القدم في الصخرة الصمَّاء، وغوصُوها فيها إلى الكعبين، وتخصيصُها بهذه المزيَّة من بين الصخور، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة، فكان مقام إبراهيم، وإن كان مفرداً، في قوة الجمع، ويدل عليه أنه قرئ ‏{‏آية‏}‏‏:‏ بالتوحيد‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏الآيات‏}‏‏:‏ مقام إبراهيم، وأمْنُ من دخله، فعلى هذا يكون‏:‏ ‏{‏ومن دخله‏}‏، عطفاً على ‏{‏مقام‏}‏، وعلى الأول‏:‏ استئنافاً‏.‏ و‏{‏حج البيت‏}‏ مبتدأ، و‏{‏لله‏}‏‏:‏ خبر، والفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، و‏{‏من استطاع‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏الناس‏}‏، وقيل‏:‏ فاعل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع‏}‏ في الأرض ‏{‏للناس‏}‏ للذي استقر بمكة، وبعده بيت المقدس، وبينهما أربعون سنة‏.‏ بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور، وأمر اللّهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، ثم بُنِيَ الثاني‏.‏ وقيل‏:‏ بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ‏.‏ حال كونه ‏{‏مباركاً‏}‏؛ لأنه يتضاعف فيه الحسنات، بكل واحدة مائة ألف، وتكفر فيه السيئات، وتنزل في الرحمات، وتتوارد فيه النفخات‏.‏

‏{‏فيه آيات بينات‏}‏ واضحات، منها‏:‏ الحجر الذي هو ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء، حتى أكمل البناء، وغرقت فيه قدمه كأنه طين، ومنها‏:‏ أن الطير لا تعلوه، ومنها‏:‏ إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها، وأن ماءها ينفع لما شُرب له، ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ من العقاب في الدارين؛ لدعاء الخليل‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً، ثم لجأ إليه لا يُهَاج ولا يعاقب ما دام به، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص، وقال أبو حنيفة‏:‏ الحكم باق، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج، ولكن يُضيَّق عليه، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج‏.‏

قال- عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللّهُ من الآمنين»

وقال أيضاً‏:‏ «مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ- فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدتهُ أُمُّه»‏.‏

‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ فرض عين على ‏{‏من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ بالقدرة على الوصول بصحة البدن، راجلاً أو راكباً مع الزاد المُبلِّغ، والأمن على النفس والمال والدين‏.‏ وقيل‏:‏ الاستطاعة‏:‏ الزاد والراحة‏.‏ ‏{‏ومن‏}‏ تركه، و‏{‏كفر‏}‏ به، كاليهود والنصارى، وكل من جحده، ‏{‏فإن الله غني‏}‏ عنه، و‏{‏عن‏}‏ حجه، وعن جميع ‏{‏العالمين‏}‏، أو عبر بالكفر عن الترك، تغليظاً كقوله‏:‏ «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَر» رُوِيَ أنه- عليه الصلاة والسلام- لما نزل صدر الآية- جمع أرباب الملل، فخطبهم، وقال‏:‏ «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا»، فآمنت به ملة واحدة، وكفرت به خمس ملل، فنزل ‏{‏ومن كفر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وضع الله للناس بيتين‏:‏ أحدهما حسي، وهو الكعبة، والآخر معنوي، وهو القلب، الذي هو بيت الرب، فما دام بيت القلب خالياً من نور الرب اشتاق إلى حج البيت الحسي، فإذا تعمر البيت بنور ساكنه، صار قبلة لغيره، واستغنى عن الالتفات إلى غير نور ربه، بل صار كعبة تطوف به الواردات والأنوار، وتحفه المعارف والعلوم والأسرار، ثم يصير قطب دائرة الأكوان، وتدور عليه من كل جانب ومكان، فكيف يشتاق هذا إلى الكعبة الحسية، وقد طافت به دائرة الوفود الكونية‏؟‏ ولله در الحلاج رضي الله عنه حيث قال‏:‏

يَا لاَئِمِي لا تَلُمْني في هواه فَلَوْ *** عايَنْتَ منه الذي عاينْتَ لم تَلُمِ

للنَّاسِ حجٍّ ولي حجٍّ إلى سَكَنِي *** تُهْدَى الأضَاحِي، وأُهْدِي مُهْجِتِي ودَمِي

يطوفُ بالبيت قومٌ لا بجارحةٍ، *** بالله طافوا فأغنَاهم عن الحَرَمِ

في هذا البيت آيات واضحات، وهو إشراق شموس المعارف والأنوار، في فضاه سماء الأرواح والأسرار، وسطوع أنوار قمر التوحيد في أرض التجريد والتفريد، وظهور أنوار نجوم العلم والحِكم، في أفق سماء ارتفاع الهمم، فهذا كان مقام إبراهيم، إما الموحدين، فمن دخله كان آمناً من الطرد والبعاد إلى يوم الدين، ومن كفر وجوده؛ فإن الله غني عن العالمين‏.‏

قال في الحاشية في قوله‏:‏ ‏{‏ومَنْ دَخَلَه كان آمناً‏}‏، قيل‏:‏ وهكذا من دخل في قلب وليٍّ من أوليائه، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تبغونها‏}‏‏:‏ جملة حالية من الواو، أي‏:‏ لِمَ تصدون عن السبيل باغين لها عوجاً‏.‏ والعوج- بالكسر- في الدين والقول والعمل-، وبالفتح- في الجدار والحائط وكل شخص قائم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد في عتابك لليهود‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله‏}‏ السمعية والعقلية الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإسلام‏؟‏ ‏{‏والله شهيد على ما تعملون‏}‏ مطلع على سرها وجهرها، فيجازيكم عليها، فلا ينفعكم التحريفُ ولا الإسرار‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب لما تصدون‏}‏ عن طريق الله ‏{‏من آمن‏}‏ بها، وتبع من جاء بها، ‏{‏تبغونها عوجاً‏}‏ أي‏:‏ طالبين لها اعوجاجاً، بأن تلبسوا على الناس، وتُوهموا أن فيها عوجاً عن الحق، بزعمكم أن التوراة لا تُنْسخ، وبتغيير صفة الرسول- عليه الصلاة والسلام، أو بأن تحرشوا بين المسلمين؛ لتختلف كلمتهم، ويختل أمر دينهم، وأنتم شهداء على أنها حق، وأن الصد عنها ضلال، أو‏:‏ وأنتم عُدول عند أهل ملتكم، يثقون بأقوالكم، ويستشهدونكم في القضايا، ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏؛ فلا بد ان يجازيكم على أعمالكم، فإتنه يمهل ولا يهمل‏.‏

كرَّر الخطاب والاستفهام مرتين؛ مبالغة في التقريع ونفي العذر، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مُسْتَبح في نفسه، مستقل باستجلاب العذاب‏.‏ ولمَّا كان المنكَر عليهم في الآية الأولى‏:‏ كفرهم، وهم يجهرون به، ختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله شهيد على ما تعملون‏}‏، ولمَّا كان هذه الآية‏:‏ صدهم المؤمنين عن الإسلام، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه، قال‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها، وصد القاصدين للدخول فيها، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏، الخطاب عامٌ، والمراد‏:‏ نفر من الأوس والخزرج، ‏{‏إن تُطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب‏}‏، وهو شاسُ بن قيس اليهودي، كان شيخاً كبيراً، وكان عظيمَ الكفر شديد الضغن على المسلمين، مرَّ بنفر من الأوس والخزرج، جلوساً يتحدثون، وكان بينهما عداوة في الجاهلية، فغاظه تآلفهم واجتماعهم، وقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد، فما لنا معهم قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس بينهم ويُذكِّرهم يوم بعاث- وهو يوم حرب كان بينهم في الجاهلية- ويُنشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفرُ في ذلك اليوم للأوس، ففعل، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا‏:‏ السلاحَ السلاحَ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال‏:‏ «أبدعْوَى الجَاهِليةِ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، بعدَ إذ أكْرَمَكْم اللّهُ بالإسْلام، وقَطَعَ به عَنْكُم أمْرَ الجَاهِلِية، وألْفَ بَينكُم‏؟‏» فعلموا أنها نزغة ٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم، فَأَلَقَوا السِّلاحَ، واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً، وانصرفوا مع الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- فنزلت الآية‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً‏}‏ من اليهود ‏{‏يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏؛ يُبيح بعضكم دماء بعض، كما كنتم في الجاهلية، ‏{‏وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله‏}‏ الدالة على تحريم الدماء والشحناء، ‏{‏وفيكم رسوله‏}‏ الهادي إلى الصراط المستقيم، وهو إنكار وتعجُّبٌ من كفرهم، بعد اجتماع الأسباب الداعية إلى الإيمان، الصارفة عن الكفران، وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسولَ بأن يخاطب أهل الكتاب؛ إظهاراً لجلالة قدرهم، وإشعاراً بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم، دون أهل الكتاب؛ لبعدهم عن استحقاق مواجهة الخطاب من الكريم الوهاب‏.‏ ‏{‏ومن يعتصم بالله‏}‏ ويتمسك بدينه ‏{‏فقد هدي إلى صراط مستقيم‏}‏ لا عوج يفه وأصل الاعتصام‏:‏ التمتع‏.‏

ثم حضّ على التقوى الكاملة والدوام على الإسلام، تنفيراً من الاستماع لمن يخرج عنها، قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته‏}‏، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «حق تقاته هو أن يُطاعَ فلا يُعْصَى طرفةَ عين، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر» ولما نزلت قالوا‏:‏ يا رسول الله؛ من يقوى على هذا‏؟‏ وشق عليهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التّغَابُن‏:‏ 16‏]‏، فنسختها‏.‏ وقال مُقاتل‏:‏ معناه‏:‏ ‏(‏اتقوا الله حقَّ تقاته، فإن لم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏)‏‏.‏ وعن أنس مالك، قال‏:‏ ‏(‏لا يتقي الله عبدٌ حق تقاته حتى يُخْزِن من لسانه‏)‏، وقيل‏:‏ ليست بمنسوخة؛ لأنَّ مَنْ جَانَبَ ما نهى الله عنه، وفعل من الطاعة ما استطاع، فقد اتقى الله حق تقاته، فمعناها واحد‏.‏ وسيأتي تحديد ذلك في الإشارة، إن شاء الله‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏حق تقاته‏}‏‏:‏ أن يُنزه الطاعة عن الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها، وفي هذا الأمر تأكيدٌ للنهي عن طاعة أهل الكتاب، ‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ أي‏:‏ لا تكونوا على حالةٍ سوى الإسلام، إلى أن يردككم الموت‏.‏ ه‏.‏ أماتنا الله على حسن الختام، مع السلامة والعافية على الدوام‏.‏

الإشارة‏:‏ كما نهى الله عن طاعة من يرد عن الإيمان، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان، كائناً ما كان، وكيف يرجع عن مقام التحقيق، وقد ظهرت معالم الطريق لمن سبقت له العناية والتوفيق‏!‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ والله ما رَجَعَ مَنْ رَجَعَ إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبداً‏.‏ إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علمِ اليقين، أو من اليقين إلى الظن‏.‏ ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل الله المتين، وهو صحبة العارفين، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 101‏]‏‏.‏

ثم خاطب أهل الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اقتوا الله حق تقاته‏}‏ بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية‏.‏ فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، و‏{‏فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏:‏ خطاب لأهل افسلام والإيمان، أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو لأهل الباطن، والثانية لأهل الظاهر، فلكل آية أهل ومحل، فلا نسخ ولا تعارض‏.‏ وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه‏:‏ من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه، وليتق الله ما استطاع بظاهره‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل الحبل في اللغة‏:‏ السبب المُوصِّل إلى البغية، سمى به الإيمان أو القرآن؛ لأنه يُوصل إلى السعادة السرمدية، و‏{‏شفا حفرة‏}‏، وأصله‏:‏ ‏(‏شفو‏)‏، فقلبت ألفاً في المذكر، وحذفت في المؤنث، فقالوا‏:‏ شفة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واعتصموا‏}‏ أي‏:‏ تمسكوا يا معشر المسلمين ‏{‏بحبل الله‏}‏ أي‏:‏ الإيمان، أو كتاب الله، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنَّ هذا القرآن هو حَبْلُ الله المّتِين، وهو النورُ المُبِينُ، والشِّفَاءُ النافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ به‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ حال كونكم ‏{‏جميعاً‏}‏ أي‏:‏ مجتمعين عليه، ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ تفرقكم الجاهلي، أو لا تفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنَّ بَني إسْرائيلَ افتَرقَتْ على إحْدى وسَبْعِينَ فِرْقةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ على ثِنتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلّها في النَّارِ إلا واحِدَةً، فقيل‏:‏ يا رسول الله، ما هذه الواحدة‏؟‏ فقبض يده وقال‏:‏ الجَمَاعَةُ، ثمَّ قرأ‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا‏}‏»‏.‏

‏{‏واذكروا نعمت الله عليكم‏}‏، التي من جملتها الهداية للإسلام المؤدِّي إلى التآلف وزوال الغِلِّ، ‏{‏إذ كنتم أعداء‏}‏ في الجاهلية، يقتل بعضُكم بعضاً، ‏{‏فألّف بين قلوبكم‏}‏ بالإسلام، ‏{‏فأصبحتم بنعمته إخواناً‏}‏ متحابين مجتمعين على الأخوة في الله‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تَحَاسَدُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عبادَ الله إخْواناً، المسلمُ أَخُوا المسلمُ لا يَظْلِمُه ولا يَخْذُلُه» الحديث‏.‏ رُوي أن الأوس والخزرج كانوا أخَوَيْن، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحرب بينهما مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإسلام، وألف بينهم برسول الله عليه الصلاة والسلام- فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏وكنتم على شفا حفرة من النار‏}‏ أي‏:‏ مُشرفين على نار جهنم، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم في النار، ‏{‏فأنقذكم‏}‏ الله ‏{‏منها‏}‏ برسوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ رُوِيَ أن أعرابيّاً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية، فقال الأعرابي‏:‏ والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا النبيين ‏{‏يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون‏}‏ إلى الخير، وتزيدون ثباتاً فيه‏.‏

الإشارة‏:‏ المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق في الأصول والفروع، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية، إذ بدايتهم مجاهدة، ونهايتهم مشاهدة، وإلى ذلك أشار في المباحث، حث قال‏:‏

مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف *** ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف

وإن وقع الاختلاف في بعض الطرق الموصلة إلى المقصود، فقد اتفقت في النهاية، بخلاف أهل الظاهر، لا تجدهم يتفقون إلا في مسائل قليلة، لأن مذهبهم مبني على غلبة الظن، ومذهب القوم مبني على التحقيق ذوقاً وكشفاً، وكذلك ائتلفت أيضاً قلوبهم وأرواحهم، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا؛ لأنهم دخلوا الجنة- أعني جنة المعارف- فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 47‏]‏، فيقال لهم بعد الفتح‏:‏ واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته أخواناً متحابين، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب ‏{‏فأنقذكم منها‏}‏‏.‏ مثل هذا البيان يوضح الله آياته، أي‏:‏ تجلياته، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته في أنوار صفاته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏